فصل: وصية الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني (شيخ الصوفية)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني ـ شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده ـ قال ‏:‏ أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين‏.‏ قال فيها‏:‏ ‏[‏وأن اللّه استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول والكيف فيه مجهول، وأنه ـ عز وجل ـ مستوٍِ على عرشه، بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط، ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق ‏.‏

وأن اللّه ـ عز وجل ـ سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب ،ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، ‏(‏فيقول‏:‏ هل من داع ـ فأستجيب له‏؟‏ هل من مستغفر فأغفر له‏؟‏ هل من تائب فأتوب عليه‏؟‏ حتى يطلع الفجر‏)‏، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه، ولا تأويل‏.‏ فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة من العارفين على هذا‏]‏ ا‏.‏هـ ‏.‏

وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في ‏[‏كتاب السنة‏]‏‏:‏ ثنا أبو بكر الأثرم، ثنا إبراهيم بن الحارث ـ يعني العبادي ـ حدثنا الليث/ بن يحيى قال ‏:‏ سمعت إبراهيم بن الأشعث ـ قال أبو بكر‏:‏ هو صاحب الفضيل ـ قال‏:‏ سمعت الفضيل بن عياض يقول‏:‏ ليس لنا أن نتوهم في اللّه كيف هو؛ لأن اللّه ـ تعالى ـ وصف نفسه فأبلغ فقال ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏]‏ فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه ‏.‏

وكل هذا النزول والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطلع، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف ‏.‏ فإذا قال الجهمي‏:‏ أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل ‏:‏ بل أومن برب يفعل ما يشاء ‏.‏

ونقل هذا عن الفضيل جماعة، منهم البخاري في ‏[‏أفعال العباد‏]‏‏.‏

ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه ‏[‏الفاروق‏]‏ فقال ‏:‏ ثنا يحيي بن عمار، ثنا أبي، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا حَرَميّ بن على البخاري، وهانئ بن النضر، عن الفضيل‏.‏

وقال عمرو بن عثمان المكي ـ في كتابه الذي سماه ‏:‏ ‏[‏التعرف بأحوال العباد والمتعبدين‏]‏ ـ قال‏:‏ ‏[‏باب ما يجيء به الشيطان للتائبين‏]‏ وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل، ثم في التوحيد‏.‏ فقال ‏:‏ ‏[‏من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل‏]‏، فقال بعد ذكر حديث الوسوسة ‏:‏

/واعلم ـ رحمك اللّه ـ أن كُلَّ ما توهمه قلبك، أو سَنَح ‏[‏أي‏:‏ عَرَض‏]‏‏.‏ في مجاري فكرك، أو خطر في معارضات قلبك، من حسن، أو بهاء، أو ضياء، أو إشراق أو جمال، أو سنح مسائل، أو شخص متمثل، فاللّه ـ تعالى ـ بغير ذلك، بل هو ـ تعالى ـ أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏4‏]‏ أى‏:‏ لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أو لم تعلم أنه لما تجلي للجبل تدكدك لعظم هيبته وشامخ سلطانه‏؟‏ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك‏.‏ فرد بما بين اللّه في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل، والنظير والكفء ‏.‏

فإن اعتصمت بها وامتنعت منه، أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب ـ تعالى وتقدس ـ في كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لك‏:‏ إذا كان موصوفًا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك، ويدخلك في صفات الملحدين، الزائغين، الجاحدين لصفة الرب ـ تعالى ‏.‏

واعلم ـ رحمك اللّه تعالى ـ أن اللّه ـ تعالى ـ واحد لا كالآحاد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد ـ إلى أن قال ـ ‏:‏خلصت له الأسماء السَّنِيَّة، فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث ـ تعالى ـ صفة كان منها خليًا، واسمًا كان منه بريًا، تبارك وتعالى، فكان هاديًا سيهدي، وخالقًا سيخلق، ورازقًا سيرزق، وغافرًا سيغفر، وفاعلًا سيفعل، ولم يحدث له /الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل، فهو يسمي به في جملة فعله ‏.‏

كذلك قال اللّه تعالى ‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏22‏]‏ بمعنى‏:‏ أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجودًا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه؛ لأن ذلك فعل الربوبية فيستحسر العقل، وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين، لا معطلا ولا مشبهًا، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقف عند خبره لنفسه مسلمًا، مستسلمًا، مصدقًا، بلا مباحثة التنفير، ولا مناسبة التنقير ‏.‏

إلى أن قال‏:‏فهو ـ تبارك وتعالى ـ القائل‏:‏ أنا اللّه لا الشجرة، الجائي قبل أن يكون جائيًا، لا أمره، المتجلي لأوليائه في المعاد، فتبيض به وجوههم، وتَفْلُج ‏[‏أي‏:‏ تظهر وتثبت‏]‏‏.‏ به على الجاحدين حجتهم، المستوى على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان، تبارك وتعالى الذى كلم موسى تكليما، وأراه من آياته، فسمع موسى كلام اللّه؛ لأنه قربه نَجِيّا‏.‏ تقدس أن يكون كلامهم مخلوقًا أو محدثًا أو مربوبًا، الوارث بخلقه لخلقه، السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسامهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه ـ وهو أمره ـ تعالى وتقدس ـ أن يحل بجسم أو يمازج بجسم أو يلاصق به، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، الشائي له المشيئة، العالم له العلم، الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب/ إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس ‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، القائل ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏16 ،17‏]‏، تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء، جل عن ذلك علوًا كبيرًا ‏"‏ ا‏.‏هـ ‏.‏

وقال الإمام أبو عبد اللّه الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي، في كتابه المسمى ‏[‏فَهْم القرآن‏]‏، قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ، وأن النسخ لا يجوز في الأخبار، قال ‏:‏ لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح اللّه وصفاته، ولا أسماءه، يجوز أن ينسخ منها شيء ‏.‏

إلى أن قال ‏:‏ وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا، أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب، بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب، وأنه لا يبصر ما قد كان، ولا يسمع الأصوات، ولا قدرة له، ولا يتكلم، ولا كلام كان منه، وأنه تحت الأرض، لا على العرش، جل وعلا عن ذلك ‏.‏

فإذا عرفت ذلك واستيقنته، علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز، فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ‏}‏ الآيات ‏[‏يونس‏:‏90‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏31‏]‏‏.‏

/ وقال‏:‏ قد تأول قوم‏:‏ أن اللّه عنى أن ينجيه ببدنه من النار، لأنه آمن عند الغرق، وقال‏:‏ إنما ذكر اللّه أن قوم فرعون يدخلون النار دونه وقال‏:‏ ‏{‏فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏98‏]‏، وقال ‏:‏ ‏{‏وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏45‏]‏، ولم يقل‏:‏ بفرعون‏.‏ قال ‏:‏ وهكذا الكذب على اللّه؛ لأن اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏25‏]‏ كذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏3‏]‏ فأقر التلاوة على استئناف العلم من اللّه ـ عز وجل ـ عن أن يستأنف علمًا بشيء؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر أن يصنعه ـ نجده ضرورة ـ قال ‏:‏ ‏{‏أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏14‏]‏ قال ‏:‏ وإنما قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏31‏]‏ إنمايريد حتى نراه، فيكون معلومًا موجودًا؛ لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوما من قبل أن يكون، ويعلمه موجودًا كان قد كان، فيعلم في وقت واحد معدومًا موجودًا وإن لم يكن، وهذا محال ‏.‏

وذكر كلامًا في هذا في الإرادة ‏.‏

إلى أن قال ‏:‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏15‏]‏، ليس معناه أن يحدث له سمعًا، ولا تكلف بسمعما كان من قولهم، وقد ذهب قوم من ‏[‏أهل السنة‏]‏ أن لله استماعًا في ذاته، فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏105‏]‏ لا يتحدث بصرًا محدثًا في ذاته، إنما يحدث الشيء فيراه مكونًا، كما لم يزل يعلمه قبل كونه ‏.‏

/إلى أن قال‏:‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الملك ‏:‏61‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏ ‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏السجدة ‏:‏5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏4‏]‏، وقال لعيسى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏206‏]‏‏.‏

وذكر الآلهة، أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلًا، حيث هو، فقال‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏24‏]‏ أي طلبه، وقال‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏1‏]‏

قال أبو عبد اللّه ‏:‏ فلن ينسخ ذلك لهذا أبدًا ‏.‏

كذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏84‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏المجادلة ‏:‏7‏]‏، فليس هذا بناسخ لهذا، ولا هذا ضد لذلك ‏.‏

واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن اللّه أراد الكون بذاته، فيكون في أسفل الأشياء، أو ينتقل فيها لانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها، جل وعز عن ذلك، وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال، فزعموا أن اللّه / تعالى في كل مكان بنفسه كائنًا، كما هو على العرش، لا فرقان بين ذلك، ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئًا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات أن اللّه ـ تعالى ـ في كل شيء بنفسه كائنًا، ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا ‏:‏ لا كالشيء في الشيء ‏.‏

قال أبو عبد اللّه لنا قوله ‏:‏ ‏{‏حَتَّى نَعْلَمَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏31‏]‏ ‏{‏فَسَيَرَى اللّهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏105‏]‏ و‏{‏إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏15‏]‏ فإنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجودًا، ويسمعه مسموعا، ويبصره مبصرًا، لا على استحداث علم ولا سمعولا بصر ‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏16‏]‏ ‏:‏ إذا جاء وقت كون المراد فيه ‏.‏

وأن قوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏18‏]‏، ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏}‏‏[‏الملك‏:‏16‏]‏، ‏{‏إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏42‏]‏ فهذا وغيره مثل قوله‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏4‏]‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏ هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها، منزه عن الدخول في خلقه، لا يخفي عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أرادأنه بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ‏}‏ ‏[‏الملك ‏:‏16‏]‏ يعني فوق العرش، والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء، في السماء، وقد قال مثل ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏2‏]‏ يعني‏:‏ على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏26‏]‏ يعني‏:‏ على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏17‏]‏ يعني‏:‏ فوقها عليها‏.‏

/وقال‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏}‏ ثم فصل فقال‏:‏ ‏{‏أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ‏}‏ ‏[‏الملك ‏:‏16‏]‏ ولم يصل، فلم يكن لذلك معنى ـ إذا فصل قوله‏:‏ ‏{‏مَّن فِي السَّمَاء‏}‏ ثم استأنف التخويف بالخسف ـ إلا أنه على عرشه فوق السماء ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏السجدة ‏:‏5‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏4‏]‏، فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال‏:‏ ‏{‏فٌي يّوًمُ كّانّ مٌقًدّارٍهٍ خّمًسٌينّ أّلًفّ سّنّةُ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏4‏]‏ فقال‏:‏ صعودها إليه وفصله من قوله إليه، كقول القائل‏:‏ اصعد إلى فلان في ليلة أو يوم ‏.‏ وذلك أنه في العلو وإن صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى اللّه ـ عز وجل ـ، وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض، وعرجوا بالأمر إلى العلو، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏ ولم يقل‏:‏ عنده ‏.‏

وقال فرعون‏:‏ ‏{‏يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏36 ،37‏]‏، ثم استأنف الكلام فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏37‏]‏ فيما قال لي أن إلهه فوق السموات ‏.‏

فبين اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال، وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب، ولو أن موسى قال ‏:‏ إنه في كل مكان بذاته، لطلبه في بيته، أو في بدنه، أو حُشِّه ‏[‏الحُشُّ‏:‏ البستان، ويطلق على مخرج الغائط‏]‏، فتعالى اللّه عن ذلك، ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح ‏[‏الصَّرْح‏:‏ بيت واحد يُبنى مفردًا طويلًا ضخمًا‏]‏‏.‏

/قال أبو عبد اللّه ‏:‏ وأما الآي التي يزعمون أنها قد وصلها ـ ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه ـ فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ فأخبر بالعلم ثم أخبر أنه مع كل مناج، ثم ختم الآية بالعلم بقوله ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏7‏]‏‏.‏

فبدأ بالعلم، وختم بالعلم، فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا، لا يخفون عليه، ولا يخفي عليه مناجاتهم ‏.‏ ولو اجتمع القوم في أسفل، وناظر إليهم في العلو، فقال ‏:‏ إني لم أزل أراكم، وأعلم مناجاتكم لكان صادقًا ـ ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق ـ فإن أبَوْا إلا ظاهر التلاوة وقالوا‏:‏ هذا منكم دعوى، خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة؛ لأن من هو مع الاثنين فأكثر، هو معهم لا فيهم، ومن كان مع شيء خلا جسمه، وهذا خروج من قولهم ‏.‏

وكذلك قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏16‏]‏، لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء، ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليسفي حبل الوريد ‏.‏ وكذلك قوله ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏84‏]‏ لم يقل‏:‏ في السماء ثم قطع ـ كما قال‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏}‏ثم قطع فقال ‏:‏ ‏{‏أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏16‏]‏ ـ فقال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ‏}‏ يعني‏:‏ إله أهل السماء وإله أهل الأرض وذلك موجود في اللغة، تقول ‏:‏ فلان أمير في خراسان، وأمير في بلخ، وأمير في سمرقند؛ وإنما هو في موضع واحد، ويخفي عليه ما وراءه فكيف العالي فوق الأشياء، لا يخفي عليه شيء من الأشياء يدبره، فهو إله فيهما / إذ كان مدبرًا لهما، وهو على عرشه وفوق كل شيء، تعالى عن الأشباه والأمثال‏]‏ ‏.‏ ا‏.‏هـ ‏.‏

وقال الإمام أبو عبد اللّه محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه ‏[‏اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات‏]‏، قال في آخر خطبته ‏:‏ ‏[‏فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد اللّه ـ عز وجل ـ ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه، قولا واحدًا وشرعًا ظاهرًا، وهم الذين نقلوا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك حتى قال‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وحديث ‏(‏لعن اللّه من أحدث حدثًا‏)‏ قال ‏:‏ فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف ـ وهم الذين أُمرنا بالأخذ عنهم؛ إذ لم يختلفوا بحمد اللّه تعالى في أحكام التوحيد، وأصول الدين من ‏[‏الأسماء والصفات‏]‏، كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا، كما نقل سائر الاختلاف ـ فاستقر صحة ذلك عند خاصتهم وعامتهم، حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان، فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين، حتى نقلوا ذلك قرنًا بعد قرن؛ لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر، وللّه المنة ‏.‏

ثم إني قائل ـ وباللّه أقول ـ ‏:‏ إنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين، من الصحابة والتابعين، فخاضوا في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معولهم على أحكام هوى حسن النفس المستخرجة من سوء الظن به، على مخالفة السنة والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس، فتأولوا على ما وافق هواهم /وصححوا بذلك مذهبهم‏:‏ احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين؛ خوفًا من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمته ومنع المستجيبين له حتى حذرهم‏.‏

ثم ذكرأبو عبد اللّه خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتنازعون في القدر وغضبه، وحديث ‏(‏لا أُلْفَيَنَّ أحَدَكم‏)‏ وحديث ‏(‏ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة‏)‏ فإن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه، ثم قال ‏:‏ فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة، ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان، المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرنًا بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة، الحافظين على الأمة مالهم وما عليهم من إثبات السنة ـ إلى أن قال‏:‏

فأول ما نبتدئ به ما أوردنا هذه المسألة من أجلها ذكر ‏[‏أسماء اللّه عز وجل‏]‏ في كتابه، وما بيَّن صلى الله عليه وسلم من ‏[‏صفاته‏]‏ في سنته، وما وصف به ـ عز وجل ـ مما سنذكر قول القائلين بذلك، مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك، ومما قد أمرنا بالاستسلام له ـ إلى أن قال‏:‏

ثم إن اللّه تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية والإقرار بالألوهية، أن ذكر ـ تعالى ـ في كتابه بعد التحقيق، بما بدأ من أسمائه وصفاته، وأكد ـ عليه السلام ـ بقوله، /فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله ‏:‏ لا إله إلا اللّه، إلى أن قال بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل‏.‏ فقال لموسى عليه السلام ‏:‏ ‏{‏وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏41‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏28،30‏]‏ ‏.‏

ولصحة ذلك واستقرار ما جاء به المسيح ـ عليه السلام ـ فقال ‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ‏}‏ ‏[‏المائدة ‏:‏116‏]‏، وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ ‏[‏الأنعام ‏:‏45‏]‏‏.‏

وأكد ـ عليه السلام ـ صحة إثبات ذلك في سنته فقال ‏:‏ ‏(‏يقول اللّه عز وجل ‏:‏ من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏كتب كتابًا بيده على نفسه‏:‏ إن رحمتي غلبت غضبي‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏سبحان اللّه رضا نفسه‏)‏، وقال في محاجة آدم لموسى‏:‏ ‏(‏أنت الذي اصطفاك اللّه واصطنعك لنفسه‏)‏ فقد صرح بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفسًا، وأثبت له الرسول ذلك، فعلى من صدق اللّه ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه، ويكون ذلك مبنيًا على ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏ ‏.‏

ثم قال ‏:‏ فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه ـ عليه السلام ـ بنقل العدل عن العدل، حتى يتصل به صلى الله عليه وسلم، وإن مما قضى اللّه علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك أن قال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏35‏]‏ ثم قال عقيب ذلك ‏:‏ ‏{‏نُّورٌ عَلَى نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏35‏]‏، وبذلك دعاه / صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنت نور السموات والأرض‏)‏ ثم ذكر حديث أبي موسى ‏:‏ ‏(‏حجابه النور ـ أو النار ـ لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه‏)‏ وقال‏:‏ سبحات وجهه‏:‏ جلاله ونوره، نقله عن الخليل وأبي عبيد، وقال ‏:‏ قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ نوّر السموات نورُ وجهه ‏.‏

ثم قال‏:‏ ومما ورد به النص أنه حي، وذكر قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏‏.‏ والحديث‏:‏ ‏(‏يا حي، يا قيوم، برحمتك أستغيث‏)‏ ، قال‏:‏ ومما تعرف اللّه إلى عباده أن وصف نفسه، أن له وجهًا موصوفًا بالجلال والإكرام فأثبت لنفسه وجها ـ وذكر الآيات ‏.‏

ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم، فقال‏:‏ في هذا الحديث من أوصاف اللّه ـ عز وجل ـ لا ينام، موافق لظاهر الكتاب ‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وأن له ‏[‏وجهًا‏]‏ موصوفًا بالأنوار، وأن له ‏[‏بصرًا‏]‏ كماعلمنا في كتابه أنه سميع بصير ‏.‏

ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه، وفي إثبات السمع والبصر، والآيات الدالة على ذلك‏.‏

ثم قال ‏:‏ ثم إن اللّه ـ تعالى ـ تعرف إلى عباده المؤمنين، أن قال ‏:‏ له يدان قد بسطهما بالرحمة، وذكر الأحاديث في ذلك، ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت‏.‏

/ثم ذكر حديث ‏:‏‏(‏يلقى في النار وتقول‏:‏ هل من مزيد‏؟‏ حتى يضع فيها رجله‏)‏ وهي رواية البخاري، وفي رواية أخرى ‏:‏ ‏(‏يضع عليها قدمه‏)‏‏.‏

ثم ما رواه مسلم البطين عن ابن عباس‏:‏ أن الكرسي موضع القدمين، وأن العرش لا يقدر قدره إلا اللّه، وذكر قول مسلم البطين نفسه، وقول السدى، وقول وهب بن منبه، وأبي مالك، وبعضهم يقول‏:‏ موضع قدميه، وبعضهم يقول‏:‏ واضع رجليه عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة، موافقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم، متداولة في الأقوال، ومحفوظة في الصدر، ولا ينكر خلف عن السلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم، نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم، إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم، ممن حذرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم ومكالمتهم، وأمرنا ألا نعود مرضاهم، ولا نشيع جنائزهم، فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه، وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس، وكفر المتقدمين وأنكروا على الصحابة والتابعين، وردوا على الأئمة الراشدين، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل ‏.‏

ثم ذكر المأثور عن ابن عباس، وجوابه لنجدة الحروري، ثم حديث ‏[‏الصورة‏]‏، وذكر أنه صنف فيه كتابًا مفردًا، واختلاف الناس في تأويله ‏.‏/ ثم قال ‏:‏ وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده فيما خالفنا فيه أهل الزيغ، وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة ـ إن شاء اللّه ‏.‏

ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها، وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم ‏[‏الصديق‏]‏ وأنه أفضل الأمة ‏.‏

ثم قال ‏:‏ وكان الاختلاف في ‏[‏خلق الأفعال‏]‏‏:‏ هل هي مقدرة أو لا‏؟‏ قال‏:‏ وقولنا فيها‏:‏ إن أفعال العباد مقدرة معلومة، وذكر إثبات القدر ‏.‏ ثم ذكر الخلاف في أهل ‏[‏الكبائر‏]‏ ومسألة ‏[‏الأسماء والأحكام‏]‏ وقال ‏:‏ قولنا فيها إنهم مؤمنون على الإطلاق وأمرهم إلى اللّه، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم ‏.‏

وقال ‏:‏ أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد، فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال، وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه ‏.‏ وقال‏:‏ قولنا إنه يزيد وينقص ‏.‏ قال ‏:‏ ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقا وغير مخلوق، فقولنا وقول أئمتنا‏:‏ إن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، وأنه صفة اللّه، منه بدأ قولًا، وإليه يعود حكمًا ‏.‏ ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال ‏:‏ قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد إن اللّه يرى في القيامة، وذكر الحجة‏.‏

ثم قال ‏:‏ اعلم ـ رحمك اللّه ـ أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدِّثين في كل الأزمنة، وقد بدأت أن أذكر أحكام الجمل من العقود ‏.‏ فنقول ونعتقد‏:‏ إن اللّه ـ عز وجل ـ له عرش، وهوعلى عرشه فوق سبع سمواته/بكل أسمائه وصفاته؛ كما قال ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏السجدة ‏:‏5‏]‏، ولا نقول‏:‏ إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه لأنه عالم بما يجري على عباده‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏5‏]‏ ‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ونعتقد أن اللّه ـ تعالى ـ خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء، لا للفناء‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بنفسه إلى سدرة المنتهي ‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ونعتقد أن اللّه قبض قبضتين فقال‏:‏ ‏(‏هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار‏)‏ ‏.‏

ونعتقد أن للرسول صلى الله عليه وسلم حوضًا، ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع‏.‏ وذكر ‏[‏الصراط‏]‏ و ‏[‏الميزان‏]‏ و ‏[‏الموت‏]‏ وأن المقتول قتل بأجله واستوفي رزقه ‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ومما نعتقد أن اللّه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر؛ فيبسط يده فيقول‏:‏ ‏(‏ألا هل من سائل‏)‏ الحديث، وليلة النصف من شعبان، وعشية عرفة، وذكر الحديث في ذلك‏.‏ قال ‏:‏ ونعتقد أن اللّه ـ تعالى ـ كلم موسى تكليمًا، واتخذ إبراهيم خليلا، وأن الخُلَّة غير الفقر، لا كما قال أهل البدع ‏.‏

ونعتقد أن اللّه ـ تعالى ـ خص محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرؤية، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ‏.‏ ونعتقد أن اللّه ـ تعالى ـ اختص بمفتاح خمس من الغيب لا يعلمها إلا اللّه‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ الآية ‏[‏لقمان‏:‏43‏]‏‏.‏

/ ونعتقد المسح على الخفين ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم ‏.‏ ونعتقد الصبر على السلطان من قريش، ما كان من جور أو عدل، ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد‏.‏ والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة، والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب؛ إذا لم يكن عذر أو مانع، والتراويح سنة، ونشهد أن من ترك الصلاة عمدًا فهو كافر، والشهادة والبراءة بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ولا ننزل أحدًا جنة ولا نارًا حتى يكون اللّه ينزلهم؛ والمراء والجدال في الدين بدعة‏.‏

ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرهم إلى اللّه، ونترحم على عائشة ونترضى عنها، والقول في اللفظ والملفوظ، وكذلك في الاسم والمسمى بدعة، والقول في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة ‏.‏

واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملا من غير استقصاء؛ إذ تقدم القول من مشائخنا المعروفين من أهل الإبانة والديانة، إلا أني أحببت أن أذكر ‏[‏عقود أصحابنا المتصوفة‏]‏، فيما أحدثته طائفة نسبوا إليهم ما قد تخرصوا من القول بما نزه اللّه تعالى المذهب وأهله من ذلك‏.‏

إلى أن قال‏:‏ وقرأت لمحمد بن جرير الطبري في كتاب سماه‏:‏ ‏[‏التبصير‏]‏، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم،وسألوه أن يصنف لهم/ ما يعتقده ويذهب إليه، فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية اللّه ـ تعالى ـ فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة ‏.‏

ونسب هذه المقالة إلى ‏[‏الصوفية‏]‏ قاطبة لم يخص طائفة، فبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول ـ بعد أن ادعى على الطائفة ـ ابن أخت عبد الواحد بن زيد، واللّه أعلم محله عند المخلصين، فكيف بابن أخته‏.‏ وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولا نسب إلى الجملة؛ كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولا في الفقه، وليس فيه حديث يناسب ذلك، ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين ‏.‏

واعلم أن لفظ ‏[‏الصوفية‏]‏ وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجرى فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه، رجع عنهم وهو خاسئ وحسير‏.‏

ثم ذكر إطلاقهم لفظ ‏[‏الرؤية‏]‏ بالتقييد، فقال ‏:‏ كثيرًا ما يقولون‏:‏ رأيت اللّه يقول‏.‏ وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل ‏:‏ هل رأيت اللّه حين عبدته‏؟‏ قال‏:‏ رأيت اللّه ثم عبدته ‏.‏ فقال السائل‏:‏ كيف رأيته‏؟‏ فقال ‏:‏ لم تره الأبصار بتحديد الأعيان، ولكن رؤية القلوب بتحقيق الإيقان، ثم قال ‏:‏ وإنه تعالى يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه، وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

هذا قولنا وقول أئمتنا، دون الجهال من أهل الغباوة فينا ‏.‏

/وإن مما نعتقده‏:‏ أن اللّه حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك في حجة الوداع، فمن زعم أنه يبلغ مع اللّه إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين إلا المضطر على حال يلزمه إحياء للنفس لو بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادات ـ فذلك كفر باللّه، وقائل ذلك قائل بالإباحة، وهم المنسلخون من الديانة ‏.‏

وأن مما نعتقده ‏:‏ترك إطلاق تسمية ‏[‏العشق‏]‏ على اللّه ـ تعالى ‏.‏ وبين أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه ولعدم ورود الشرع به، وقال ‏:‏أدنى ما فيه أنه بدعة وضلالة، وفيما نص اللّه من ذكر المحبة كفاية ‏.‏

وإن مما نعتقده ‏:‏ أن اللّه لا يحل في المرئيات، وأنه المتفرد بكمال أسمائه وصفاته، بائن من خلقه مستو على عرشه، وأن القرآنكلامه غير مخلوق ـ حيثما تلي ودرس وحفظ ـ ونعتقد أن اللّه تعالى اتخذ إبراهيم خليلا واتخذ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم خليلا وحبيبا، والخلة لهما منه، على خلاف ما قاله المعتزلة‏:‏ إن الخلة الفقر والحاجة‏.‏ إلى أن قال‏:‏

والخلة والمحبة صفتان للّه هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليها الكيف، فأما صفاته ـ تعالى ـ فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفي عنهما التشبيه، فالإيمان به واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط ‏.‏

/ومما نعتقده‏:‏ أن اللّه أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم اللّه الغش والظلم، وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع؛ إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، إنما حرم اللّه ورسوله الفساد، لا الكسبوالتجارات؛ فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة، وإن مما نعتقد‏:‏ أن اللّه لا يأمر بأكل الحلال، ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة؛ والمعتقدأن الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقلبون في الحرام، فهو مبتدع ضال، إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع، لا أنه مفقود من الأرض ‏.‏

ومما نعتقده‏:‏ أنا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه، والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عما قاله ‏.‏ فإن سأل سائل على سبيلالاحتىاط، جاز إلا من داخل الظلمة ‏.‏

ومن ينزع عن الظلم، وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك، فالسؤال والتوقي؛ كما سأل الصديق غلامه، فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا، فلا يطلق عليه الحلال ولا الحرام، إلا أنه مشتبه؛ فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق ‏.‏ وأجازابن مسعود وسلمان الأكل منه وعليه التبعة، والناس طبقات، والدينُ الحنيفيةُ السمحة ‏.‏

وإن مما نعتقد‏:‏ أن العبد مادام أحكام الدار جارية عليه، فلا يسقط عنه / الخوف والرجاء، وكل من ادعى ‏[‏الأمن‏]‏ فهو جاهل باللّه، وبما أخبر به عن نفسه‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}

‏[‏الأعراف‏:‏99‏]‏، وقد أفردت كشف عورات من قال بذلك‏.‏

ونعتقد أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه، فيبقى على أحكام القوة والاستطاعة؛ إذ لم يسقط اللّه ذلك عن الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية، والخروج إلى أحكام الأحدية المسَدِيَّة بعلائق الآخرية، فهو كافر لا محالة، إلا من اعتراه علة، أو رأفة، فصار معتوها أو مجنونًا أو مبرسمًا، وقد اختلط عقله أو لحقه غشية يرتفع عنه بها أحكام العقل، وذهب عنه التمييز والمعرفة، فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة ‏.‏

ومن زعم الإشراف على الخلق، يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند اللّه ـ بغير الوحي المنزل من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ فهو خارج عن الملة، ومن ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم، وعلى ماذا يموتون عليه ويختم لهم ـ بغير الوحي من قول اللّه وقول رسوله ـ فقد باء بغضب من اللّه ‏.‏

و‏[‏الفراسة‏]‏ حق على أصول ما ذكرناه، وليس ذلك مما رسمناه في شيء، ومن زعم أن صفاته تعالى بصفاته ـ ويشير في ذلك إلى غير آية العظمة والتوفيق والهداية ـ وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة، فهو حلولي قائل باللاهوتية، والالتحام، وذلك كفر لا محالة‏.‏

/ ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة، ومن قال‏:‏ إنها غير مخلوقة فقد ضاهي قول النصارى ـ النسطورية ـ في المسيح، وذلك كفر باللّه العظيم ‏.‏ ومن قال ‏:‏ إن شيئا من صفات اللّه حال في العبد، أو قال بالتبعيض على اللّه فقد كفر، والقرآن كلام اللّه ليس بمخلوق، ولا حال في مخلوق؛ وأنه كيفما تلي، وقرئ، وحفظ، فهو صفة اللّه ـ عز وجل ـ وليس الدرس من المدروس، ولا التلاوة من المتلو؛ لأنه ـ عز وجل ـ بجميع صفاته وأسمائه غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك فهو كافر ‏.‏

ونعتقد أن القراءة ‏[‏الملحنة‏]‏ بدعة وضلالة ‏.‏

وأن ‏[‏القصائد‏]‏ بدعة، ومجراها على قسمين ‏:‏ فالحسن من ذلك من ذكر آلاء اللّه ونعمائه وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين، فذلك جائز، وتركه والاشتغال بذكر اللّه والقرآن والعلم أولى به، وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على اللّه كفر، واستماع الغناء والربعيات على اللّه كفر، والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكامالدين فسق، وعلى أحكام التواجد والغناء لهو ولعب ‏.‏

وحرام على كل من يسمع القصائد والربعيات الملحنة ـ الجائي بين أهل الأطباع ـ على أحكام الذكر، إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد، ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يضاف إلى اللّه ـ تعالى ـ من ذلك، وما لا يليق به ـ عز وجل ـ مما هو منزه عنه، فيكون استماعه كما قال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ الآية ‏[‏الزمر ‏:‏18‏]‏ ‏.‏

/وكل من جهل ذلك وقصد استماعه على اللّه على غير تفصيله فهو كفر لا محالة، فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى اللّه فغير جائز، إلا لمن عرف بما وصفت من ذكر اللّه ونعمائه، وما هو موصوفبه ـ عز وجل ـ مما ليس للمخلوقين فيه نعت ولا وصف، بل ترك ذلك أولى وأحوط، والأصل في ذلك أنها بدعة، والفتنة فيها غير مأمونة على استماع الغناء ‏.‏

و‏[‏الربعيات‏]‏ بدعة، وذلك مما أنكره المطلبي ومالك والثوري، ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل، وإسحاق، والاقتداء بهم أولى من الاقتداء بمن لا يعرفون في الدين، ولا لهم قدم عند المخلصين ‏.‏

وبلغني أنه قيل لبشر بن الحارث ‏:‏ إن أصحابك قد أحدثوا شيئًا يقال له‏:‏ القصائد‏.‏ قال ‏:‏مثل إيش‏؟‏ قال‏:‏ مثل قوله ‏:‏

اصبري يانفس حتى تسكني دار الجليل

فقال ‏:‏ حسن ‏.‏ وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ ببغداد ‏.‏ فقال‏:‏ كذبوا ـ واللّه الذي لا إله غيره ـ لا يسكن ببغداد من يستمع ذلك ‏.‏

قال أبو عبد اللّه‏:‏ ومما نقول ـ وهو قول أئمتنا ـ ‏:‏ إن الفقير إذا احتاج وصبر ولم يتكفف إلى وقت يفتح اللّه له كان أعلى، فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن يأخذ أحدكم حَبْلَه‏)‏ الحديث، ونقول ‏:‏ إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط موسومة من التعفف والاستغناء /عما في أيدي الناس، ومن جعل السؤال حرفةـ وهو صحيح ـ فهو مذموم في الحقيقة خارج ‏.‏

ونقول ‏:‏ إن المستمع إلى ‏(‏الغناء، والملاهي‏)‏ فإن ذلك كما قال ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏(‏الغناء ينبت النفاق في القلب‏)‏، وإن لم يكفر فهو فسق لا محالة ‏.‏

والذي نختار ‏:‏ قول أئمتنا ‏:‏ أن ترك المراء في الدين، والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم واسط يؤدى، وأن المرسل إليهم أفضل ـ فهو كافر باللّه، ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة فقد كفر ‏.‏ ا‏.‏هـ ‏.‏

ومن متأخريهم الشيخ الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني، قال في كتاب ‏[‏الغنية‏]‏‏:‏ أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن يعرف ويتيقن أن اللّه واحد أحد ‏.‏ إلى أن قال ‏:‏

وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ ‏[‏السجدة ‏:‏5‏]‏؛ ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال‏:‏ إنه في السماء على العرش، كما قال ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏‏.‏

/وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال‏:‏ وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش قال‏:‏ وكونه على العرش مذكورٌ في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف ‏.‏ وذكر كلاما طويلا لا يحتمله هذا الموضع، وذكر في سائر الصفات نحو هذا ‏.‏

ولو ذكرت ما قاله العلماء في هذا لطال الكتاب جدًا ‏.‏

قال أبوعمر بن عبد البر ‏:‏ روينا عن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والأوزاعي، ومعمر بن راشد ‏[‏في أحاديث الصفات‏]‏ أنهم كلهم قالوا ‏:‏ أمِرُّوها كما جاءت؛ قال أبو عمر‏:‏ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مننقل الثقات أو جاء عنه أصحابه ـ رضي اللّه عنهم ـ فهو علم يُدَان به، وما أحدث بعدهم ـ ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم ـ فهو بدعة وضلالة ‏.‏

وقال في ‏[‏شرح الموطأ‏]‏ لما تكلم على حديث النزول، قال ‏:‏ هذا حديث ثابت النقل صحيح من جهة الإسناد، ولا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو منقول من طرق ـ سوى هذه ـ من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن اللّه في السماء على العرش استوى من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على ‏[‏المعتزلة‏]‏ في قولهم ‏:‏ إن اللّه ـ تعالى ـ في كل مكان بذاته المقدسة ‏.‏

قال‏:‏ والدليل على صحة ما قال أهل الحق قول اللّه ـ وذكر بعض الآيات ـ/ إلى أن قال‏:‏ وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم‏.‏

وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا‏:‏ أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله‏:‏ ‏{‏الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏7‏]‏‏:‏ هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله‏.‏

وقال أبوعمر أيضًا‏:‏ أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يَحُدُّون فيه صفة محصورة‏.‏

وأما أهل البدع ـ الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج ـ فكلهم ينكرونها، ولا يحملون شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب اللّه وسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة‏.‏

هذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب‏.‏

وفي عصره الحافظ أبوبكر البيهقي، مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري، وذبه عنهم، قال‏:‏ في كتابه ‏[‏الأسماء والصفات‏]‏‏:‏

باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين ـ لا من حيث الجارحة ـ لورود خبر/ الصادق به، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏46‏]‏‏.‏

وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب، مثل قوله في غير حديث، في حديث الشفاعة‏:‏ ‏(‏يا آدم، أنت أبو البشر خلقك اللّه بيده‏)‏، ومثل قوله في الحديث المتفق عليه‏:‏ ‏(‏أنت موسى اصطفاك اللّه بكلامه، وخط لك الألواح بيده‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏وكتب لك التوراة بيده‏)‏، ومثل ما في صحيح مسلم ‏(‏أنه ـ سبحانه ـ غرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده‏)‏ ، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تكون الأرض يوم القيامة خُبْزَةً واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خُبْزَته في السفر؛ نُزُلًا لأهل الجنة‏)‏ ‏[‏والخُبْزَة‏:‏ هي عجين يوضع في الرماد الحار حتى ينضج‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله يميل الأرض من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي كالرغيف العظيم، ويكون ذلك طعامًا نزلا لأهل الجنة‏]‏‏.‏

وذكر أحاديث مثل قوله‏:‏ ‏(‏بيدي الأمر‏)‏، ‏(‏والخير في يديك‏)‏، ‏(‏والذي نفس محمد بيده‏)‏ و‏(‏إن اللّه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏المقسطون عند اللّه على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏يطوي اللّه السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أين الجبارون‏؟‏ أين المتكبرون‏؟‏ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أين الجبارون‏؟‏ أين المتكبرون‏؟‏‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يمين اللّه ملأى لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء،/ وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع‏)‏ وكل هذه الأحاديث في الصحاح‏.‏

وذكر ـ أيضًا ـ قوله‏:‏ ‏(‏إن اللّه لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان‏:‏اختر أيهما شئت‏.‏ قال‏:‏ اخترت يمين ربي، وكلتا يدىربي يمين مباركة‏)‏، وحديث‏:‏ ‏(‏إن اللّه لما خلق آدم مسح على ظهره بيده‏)‏ إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ أما المتقدمون من هذه الأمة، فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب، وكذلك قال في ‏[‏الاستواء على العرش‏]‏ وسائر الصفات الخبرية، مع أنه يحكي قول بعض المتأخرين‏.‏

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب ‏[‏إبطال التأويل‏]‏‏:‏ لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات اللّه، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روى عن الإمام أحمد وسائر الأئمة‏.‏

وذكر بعض كلام الزهري، ومكحول، ومالك، والثوري، والأوزاعي والليث، وحماد ابن زيد، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ووَكِيع، وعبد الرحمن بن مهدي، والأسود بن سالم، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب‏.‏ وفي حكاية ألفاظهم طول‏.‏ إلى أن قال‏:‏

/ويدل على إبطال التأويل‏:‏ أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغا لكانوا أسبق إليه؛ لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة‏.‏

وقال أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام، في كتابه الذي صنفه في ‏[‏اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين‏]‏ وذكر فرق الروافض، والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة وغيرهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏[‏مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث‏]‏ جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة‏:‏ الإقرار باللّه وملائكته، وكتبه ورسله، وبما جاء عن اللّه تعالى، وما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا يردون شيئا من ذلك، وأن اللّه واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النارحق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور، وأن اللّه على عرشه، كما قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏، وأن له يدين بلا كيف، كما قال‏:‏ ‏{‏خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏64‏]‏، وأن له عينين بلا كيف، كما قال‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏14‏]‏، وأن له وجهًا كما قال‏:‏ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏27‏]‏‏.‏

وأن أسماء اللّه ـ تعالى ـ لا يقال‏:‏ إنها غير اللّه، كما قالت المعتزلة والخوارج‏.‏ وأقروا أن للّه علمًا، كما قال‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏47‏]‏، وأثبتوا له السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن اللّه كما نفته المعتزلة، وأثبتوا للّه القوة، كما قال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏15‏]‏، وذكر مذهبهم في القدر‏.‏ إلى أن قال‏:‏

ويقولون‏:‏ إن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف، من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال‏:‏ اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال‏:‏ غير مخلوق، ويقرون أن اللّه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن اللّه محجوبون، قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏15‏]‏، وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء‏.‏ إلى أن قال‏:‏

ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون‏:‏ مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار‏.‏ إلى أن قال‏:‏

وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ لا يقولون‏:‏ كيف، ولا لم؛ لأن ذلك بدعة عندهم‏.‏ إلى أن قال‏:‏

ويقرون أن اللّه يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏22‏]‏، وأن اللّه يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏16‏]‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏

ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الآثار، والنظر في الفقه، مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والشكاية، وتفقد المآكل والمشارب‏.‏

قال‏:‏ فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا باللّه، وهو المستعان‏.‏

وقال الأشعري ـ أيضًا ـ في ‏[‏اختلاف أهل القبلة في العرش‏]‏ فقال‏:‏ قال أهل السنة وأصحاب الحديث‏:‏ إن اللّه ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش، كما قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، ولا نتقدم بين يدي اللّه في القول، بل نقول‏:‏ استوى بلا كيف، وأن له وجهًا، كما قال‏:‏ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏27‏]‏‏.‏

وأن له يدين، كما قال‏:‏ ‏{‏خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏، وأن له عينين، كما قال‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏14‏]‏، وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته، كما قال‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏22‏]‏‏.‏

وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئًا إلا ما وجدوه /في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقالت المعتزلة‏:‏ إن اللّه استوى على العرش؛ بمعنى استولى‏.‏ وذكر مقالات أخرى‏.‏

وقال ـ أيضًا ـ أبوالحسن الأشعري، في كتابه الذي سماه ‏[‏الإبانة في أصول الديانة‏]‏، وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه، فقال‏:‏

‏[‏فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة‏]‏

فإن قال قائل‏:‏ قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون‏.‏

قيل له‏:‏ قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها‏:‏ التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما رُوى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل ـ نضر اللّه وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان اللّه به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة اللّه عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم‏!‏

وجملة قولنا أنا نقر باللّه وملائكته، وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند اللّه، وبما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئًا،/ وأن اللّه واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏28‏]‏، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية، وأن اللّه يبعث من في القبور‏.‏

وأن اللّه مستوٍ على عرشه، كما قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، وأن له وجها، كما قال‏:‏ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏27‏]‏، وأن له يدين بلا كيف كما قال‏:‏ ‏{‏خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏64‏]‏، وأن له عينين بلا كيف، كما قال‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏14‏]‏

وأن من زعم أن أسماء اللّه غيره كان ضالًا، وذكر نحوًا مما ذكر في الفرق إلى أن قال‏:‏

ونقول‏:‏ إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانًا، وندين بأن اللّه يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع اللّه ـ عز وجل ـ وأنه ـ عز وجل ـ يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ إلى أن قال‏:‏

وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، التي رواها الثقات عدلا عن عدل، حتى ينتهي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن قال‏:‏ ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيـا، وأن الرب ـ عز وجل ـ يقول‏:‏ ‏(‏هل من سائل‏؟‏ هل من مستغفر‏؟‏‏)‏، وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافًا لما قال أهل الزيغ والتضليل‏.‏

/ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا، وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين اللّه ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على اللّه ما لا نعلم‏.‏

ونقول‏:‏ إن اللّه يجيء يوم القيامة، كما قال‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏22‏]‏، وأن اللّه يقرب من عباده كيف شاء، كما قال‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏16‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏8، 9‏]‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ وسنحتج لما ذكرناه من قولنا، وما بقي مما لم نذكره بابًا بابًا‏.‏

ثم تكلم على أن اللّه يرى، واستدل على ذلك، ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق، واستدل على ذلك، ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال‏:‏ لا أقول‏:‏ إنه مخلوق، ولا غير مخلوق، ورد عليه‏.‏ ثم قال‏:‏

‏[‏باب ذكر الاستواء على العرش‏]‏

فقال‏:‏ إن قال قائل‏:‏ ما تقولون في الاستواء‏؟‏ قيل له‏:‏ نقول‏:‏ إن اللّه مستوٍ على عرشه، كما قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏5‏]‏‏.‏

وقال ـ تعالى ـ حكاية عن فرعون‏:‏ ‏{‏يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36، 37‏]‏ كذب موسى في قوله‏:‏ إن اللّه فوق السموات، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏‏.‏

فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏؛ لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات، وليس إذا قال‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏ يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن اللّه ـ عز وجل ـ ذكر السموات فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏16‏]‏، ولم يرد أن القمر يملؤهن وإنه فيهن جميعا‏.‏

ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن اللّه على عرشه الذي هو فوق السموات، فلولا أن اللّه على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض‏.‏

ثم قال‏:‏